يحيط ’جبهة النصرة‘ وصِنوها ’الدولة الإسلامية في العراق والشام‘ غموض كبير وأسئلة كثيرة، مردّ هذا الغموض في جزء منه هو عدم انكشاف هذه الجماعات على المجتمع العامّ وبُعدها عنه، فهي داعية لهذا المجتمع للإسلام السنّي الشرعي، كما يذكر ذلك الجولاني في كلمته الأخيرة.

ورغم أن المهتمين بالشأن السوري العام لديهم اطّلاع شيئاً ما على ’النصرة‘ وأشباهها، لا يبدو أن جميعهم يمتلكون ذات الإطلاع، ولا يبدو أن أحداً من خارج هؤلاء يمتلك معرفة بنشأتهم، ولذلك ارتأينا أن يخرج عمل شارح ومفصّل لنشأة هذه الجماعات معتمداً أكثر ما يعتمد على الكلمات والبيانات الرسمية لهم، فيُبعدنا ذلك عن المطالبة بإثبات ما نقول (كان يُرفض رأي الكثيرين حينما كانوا يقولون أن ’النصرة‘ تتبع ’القاعدة‘) ويبعدنا عن الاتهام بالتجنّي عليهم من المتعصبين لهم، وقد قمنا غالباً بالاقتصار على ذكر الحقائق الموضوعية بعيداً عن التحليل، إلا فيما ندر. فإلى القصة كاملة منذ البدء:

تبدأ الحكاية مبكراً، بعد أقل من ثلاثة شهور على بدء الثورة السورية، حيث أصدر الظواهري كلمة مصوّرة في حزيران 2011 يدعو فيها للجهاد في سوريا، وجاء فيها:

– السلام لأهل الشام الذين يقاومون الظلم والعدوان، يحيّي فيه ثباتهم وصمودهم، وشكّل هذا معظم الكلمة (أربع دقائق ونصف من أصل سبع) وتخلله الكثير من أبيات الشعر؛
– تحذير أهل الشام من قوى الاستكبار العالمي وعلى رأسهم أمريكا، والذين تعاونوا مع بشار طوال فترة حكمه، وألحق بذلك شعراً في نقد الغرب؛
– قولوا لأمريكا وأوباما أننا نخوض معركة التحرر والتحرير، التحرر من الطواغيت والتحرير لديار المسلمين؛
– قولوا لهم أن ثورتنا لن تهدأ حتى نرفع رايات الجهاد فوق جبل المكبّر في القدس؛
– وقال أنه لولا المعركة مع الصليبية التي يخوضها، ولولا حدود سايكس وبيكو التي قدّسها حكامنا، لكان بيننا اليوم هو وإخوانه ليدافعوا عنا؛
– ولكن هناك في الشام ما يكفي من المجاهدين والمرابطين.

يُلحق الظواهري كلمة أخرى بكلمته الأولى يوم 12 شباط 2012، بعد حوالي تسعة شهور، وتكاد تتطابق الكلمتان، غير أنه هنا لا يكتفي من التحذير من الغرب، بل يلحق بهم تركيا والعرب. تتزامن الكلمة مع بعثة المراقبين العرب ومبادرات الجامعة العربية، وبعد وضع ’جبهة النصرة‘ على قائمة الإرهاب الأميركية بيوم واحد.

و قد شهدت كلمة الظواهري الأولى استنكاراً كاملاً من المنتمين للثورة السورية، بينما شهدت احتفاءً ونشراً من قبل النظام وأعوانه في تأكيد على روايته بأنها ثورة إرهابيين وتكفيريين. ويلاحظ في كلمته الأولى اقتصاره على كلمة «سوريا» غالباً دون ذكر لاسم «بلاد الشام»، والذي صار الاسم المطلق لدى الظواهري والنصرة والدولة فيما بعد.

يبدو إذن أن كلمة الظواهري الأولى كانت رسالة عامة، ودعوة وإشارة للأتباع لبدء التفكير في الجهاد في سوريا والإعداد له، بينما تبدو الكلمة الثانية إعلاناً له، حيث أنها كانت بعد شهر من تفجير الميدان الأول (مقطع الأكياس البلاستيكية الشهير) في 6 كانون الثاني 2012، التفجير الذي كان بعد يوم واحد من قدوم بعثة المراقبين العرب، وباسم «غزوة الثأر لحرائر الشام» تبنّت ’جبهة النصرة‘ هذا التفجير رسمياً عبر جناحها الإعلامي مؤسسة المنارة البيضاء (الدقيقة 21).

يُذكر أنه في حينه استنكر التفجير جميع أبناء الثورة والمعارضة السياسية، كما اعتبروه من صنيعة النظام. وحتى، بعد أن ظهر بيان التبني من قبل ’الجبهة‘ تمّ اعتبار ’الجبهة‘ ذاتها من صنيعة النظام.

و منذ ذلك الحين بدأ الجدل يسود أوساط الثورة السورية حول ’الجبهة‘ ومن يقف خلفها وعن فكرها، خاصة بعد أن بدأت عملياتها تنتشر عبر الأراضي السورية وبعد أن أثبتت قدرة قتالية عالية لم توجد لدى فصائل وجماعات الجيش الحر، ساعد على ذلك ربما أيضا تركيز النظام كثيراً على اسم ’الجبهة‘ وإلصاق كل شيء بها دعماً لروايته بأثر رجعي حول ثورة الإرهاب والمتطرفين والقاعدة. كانت اتجاهات النقاش في حينه متعددة تدور حول التالي:

– اتهام ’الجبهة‘ بأنها من صنيعة النظام حتى توصف الثورة بأنها ثورة إرهاب كما كان يصفها النظام منذ اليوم الأول، أو بدرجة أقل أن ’الجبهة‘ مخترقة وموجّهة من قبل النظام. وكان هذان الرأيان يحظيان بانتشار واسع في بدايات الجدل، ولم يختفيا حتى اليوم.
– اعتبار وجود جبهتين للنصرة، جبهة صادقة في قتال النظام وجبهة من صنع النظام، وكان يُنسب أي فعل خاطئ لجبهة النظام. لم يوجد يوماً دليل على وجود جبهتين، ويبدو هذا التحليل تحليلاً رغبوياً أكثر ما يكون.
– اعتبار ’الجبهة‘ تابعة للقاعدة فعلاً، منهجاً وتمويلاً، أو فكرياً وأيديولوجياً على أقل تقدير، دون استبعاد كون النظام قد اخترقها. هذا الرأي كان مدعماً من العارفين على الأرض دون دليل ملموس، وكان يواجَه بحجتين: إما بأن تلك التهمة باطلة وهذا غير صحيح ولا دليل عليه؛ وإما بأنه حتى لو كان ذاك الكلام صحيحاً فلا يصحّ الإعلان به، كي لا يتطابق مع رواية النظام وحرصاً على الرأي العام الدولي. استمر هذا الجدل طويلاً، ما يقرب من عام كامل، ولم ينتهِ إلا باعتراف قائد ’الجبهة‘ بـ«تجديد البيعة» للظواهري، في حادثة سنمرّ عليها لاحقاً. (تقرير من قناة الجزيرة عن الجبهة، 8 كانون الثاني 2013)

الجدل لم يكن هادئاً دائماً، وقد ارتفعت وتيرته حينما قامت الولايات المتحدة في 11 كانون الأول 2012 بإدراج ’جبهة النصرة‘ على قائمة الإرهاب الأمريكية، واعتبرتها امتداداً لدولة العراق الإسلامية (تنظيم القاعدة في العراق)، كما وضعت قائدها في العراق والشام (أبو دعاء) على لائحة الإرهاب وواعتبرت أنه يوجّه الجولاني استراتيجياً (غير معلوم إن كان أبو دعاء هو البغدادي نفسه الذي سيمرّ ذكره لاحقاً)

القرار لم يمرّ بهدوء، كل لأسبابه. استمرّ المدافعون عن ’جبهة النصرة‘ بأنها ليست تابعة للقاعدة بحجتهم، بينما اعتبرت قوى المعارضة السياسية أن وضع فئة تقاتل النظام على لائحة الإرهاب هو إساءة للثورة السورية. دفعت هذه القوى لتسمية الجمعة اللاحقة بـ«لا إرهاب في سوريا إلا إرهاب الأسد»، وقد تزامن كل ذلك مع بدايات تشكل ’الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية‘ ومع مؤتمر أصدقاء سوريا في المغرب. (من كلمة رئيس الائتلاف فيه: «القرار باعتبار إحدى الجهات التي تقاتل النظام جهة إرهابية تلزم إعادة النظر فيه (…) نختلف مع بعض الجهات، نؤكد أن كل بنادق الثوار هدفها إسقاط نظام طاغوتي مجرم (…) لا يعيب أحداً أن يكون دافعه لتحرير بلاده هو الدين…»).

يبدأ فصل جديد من القصة بظهور قائد دولة العراق الإسلامية (القاعدة في العراق) أبي بكر البغدادي في مقطع صوتي، 9 نيسان 2013، يعلن فيه اتحاد ’دولة العراق الإسلامية‘ و’جبهة النصرة لأهل الشام‘ تحت مسمى ’دولة العراق والشام الإسلامية‘، وكان ما جاء في كلمته:

– السرد التاريخي والتبرير الشرعي لتغيير المسمّيات والرايات وتوحيدها، وكان ذلك لأكثر من نصف مدة الكلمة؛
– أن للقاعدة خلايا سابقة كانت فقط في حالة كمون وإعداد؛
– وأن الجولاني («وهو أحد جنودنا» كما خاطبه) مرسل من قبله مع عدد من الرجال المهاجرين والأنصار (المهاجرين اسم رمزي يطلق على غير السوريين أو غير أهل البلاد ممن جاءوا للجهاد، والأنصار يعني أهل البلاد من المجاهدين) ومع مناصفة «بيت المال» شهرياً، ليلتحق بتلك الخلايا؛
– لم نعلن عن الدولة حتى يعرف الناس حقيقتها بعيداً عن تشويه الإعلام، وقد آن الأوان لنعلن أن ’الجبهة‘ ما هي إلا امتداد لدولة العراق… ومن ثم يلغي البغدادي ’الدولة‘ و’الجبهة‘ وتوحيدهما تحت اسم ’دولة العراق والشام الإسلامية‘ ويوحد رايتهما بـ«راية الخلافة»؛
– نفتح أيدينا لفصائل المجاهدين وللعشائر في بلاد الشام لنجتمع على تحكيم شرع الله، وأننا لا نترك السلاح حتى يحكم الشرع؛
– يتولى أبناء الشام من مجاهدينا الإشراف على إقليم الشام؛
– إياكم يا أبناء الشام أن تتخلّصوا من ظلم الديكتاتورية لتذهبوا إلى ظلم الديمقراطية!

 ردود الفعل حول الكلمة كانت مرتبكة، وكانت خاضعة للمواقف السابقة المعلنة. المكذّبون لكون النصرة تتبع للقاعدة استمروا بتكذيبهم، والمكذّبون حرصاً على الرأي العام استمروا بذلك أيضاً، بينما اعتبر متّهمو النصرة بأنها تتبع للقاعدة أنهم وجدوا دليلاً يؤيدون به اتهامهم، أما النشطاء على الأرض فبدأوا يذكرون أن مبايعة البغدادي تحت اسم ’دولة العراق والشام الإسلامية‘ صارت تؤخذ من مجاهدي ’النصرة‘. وفي مساء اليوم ينتشر بين مقاتلي النصرة أن خطاباً للجولاني سيُنشر صباح اليوم التالي ليبيّن الموقف من خطاب البغدادي. ثم تهدأ الأمور حتى حينه.

وفي صبيحة يوم الأربعاء 10 نيسان 2013 تنشر ’المنارة البيضاء‘ خطاباً للجولاني يُصدّره بمخاطبة جميع المسلمين والفصائل المقاتلة والمجاهدين وأهل الشام وأبناء ’جبهة النصرة‘، وكان ما جاء في كلمته:

– إنكار علمه بإعلان التوحيد مع دولة البغدادي، وأنه ما علم بذلك إلا مما نُشر في وسائل الإعلام، بل وشدّد أن الخطاب «منسوب» للبغدادي دون تأكيده أو نفيه، فإن كان حقيقياً فهو قد حدث دون استشارة؛
– أن الجولاني كان من المشاركين في جهاد العراق منذ بدئه حتى بدء الثورة السورية، إلا ما حدث له من انقطاع قدري (سنعلم فيما بعد أنه السجن) وأنه رغم هذا الإنقطاع فقد تابع أحداث العراق واستخلص منها العِبَر التي أفادت الجهاد في الشام؛
– الإعتراف بالفضل لمجاهدي العراق وللشيخ البغدادي؛
– أن البغدادي وافق على مشروع طرحه الجولاني لنصرة بلاد الشام (ستمرّ تفاصيل ذلك لاحقاً)؛
– تصديق خطاب البغدادي بمشاركة نصف بيت المال والإمداد بالرجال؛
– أننا أعلنّا منذ البدء أننا قمنا لتحكيم شرع الله، ورغم ذلك فإننا لم نرغب بالإستعجال بالإعلان للمصلحة، وما دمنا نقوم بمهام الدولة وهو الجوهر فالإعلان ليس مهماً؛
– أن الدولة تُبنى بسواعد الجميع ممن شارك في الجهاد وليس بفصيل واحد، وأن عدم الإعلان لم يكن عن رقّة في الدين أو ضعف وإنما لحكمة وسياسة شرعية؛
– أننا نستجيب لخطاب البغدادي –حفظه الله– بالارتقاء من الأدنى إلى الأعلى، ونجدّد البيعة للشيخ الظواهري؛
– تبقى ’الجبهة‘ على حالها وتبقى رايتها على حالها، وإعلان البيعة لن يغير سياسة الجبهة.

انتهت حالة الجدل أخيراً بعد خطاب الجولاني (على الأقل بخصوص نسبة ’الجبهة‘ للقاعدة). الخطاب كان انشقاقاً واضحاً عن البغدادي رغم كل الكلمات المهذبة التي كالها له الجولاني. بدا واضحاً أن الخطابين إعلان لخلاف سابق بينهما، وأن الخطاب كان ذكياً بالنسبة لما اعتيد عليه من خطابات الجهاديين، فهو كان ذا لغة مهذبة وهادئة، وأنه رغم وضوح صحة نسبة الكلمة للبغدادي إلا أن الجولاني ألمح إلى أن الشريط منسوب، تخفيفاً للإحتقان، بدليل أنه قال بأنه يستجيب للبغدادي بـ«الارتقاء من الأدنى للأعلى» (عبارة استخدمها البغدادي في خطابه)، وقد مدّ الجولاني يده لجميع الفصائل والمقاتلين مستفيداً من تجربة الجهاد في العراق.

مبايعة الظواهري كانت تخلصاً من سطوة البغدادي والإنتقال إلى «المدير» مباشرةً، وكان انتظار ردة فعل الظواهري هي الخطوة التالية.

العاملون على الأرض بدؤوا يتحدثون عن انشقاق حدث في ’الجبهة‘ ولم يكفِ خطاب الجولاني ليحلّه، وكانت متابعة مواقع الجهاديين كفيلة بتبيين حجم الخلاف والمناكفة. التقسيم البسيط يقول بأن «المهاجرين» (أي غير السوريين) بايعوا ’الدولة‘، وبقي السوريون مع الجولاني في ’الجبهة‘، كان هذا هو الغالب وليس بالضرورة كل شيء.

موقف الظواهري وسبب الخلاف وتفاصيل نشوء ’الجبهة‘ وكيف تطوّر ذلك لاحقاً، جاء في رسالة لجهادي مصري قديم، «مصري في قلب الجبهة» كما يسمي نفسه، وكانت متابعته ومحاولة مقاطعة الأخبار والروايات وسؤال آخرين تثبت أن كل ما قاله صحيح. كانت رسالته شديدة الأهمية، وبيّنت التالي:

– الجولاني كان سجيناً منذ ما بعد بداية الجهاد في العراق بشهور (من 2004 وحتى 2011! فمن أخرجه حينها، ولماذا؟)؛
– قدّم الجولاني مشروعاً من أربعين صفحة لتنظيم الجهاد في الشام (المشروع الذي ذكره الجولاني في كلمته) وافق عليه البغدادي؛
– ’مجلس شورى الجبهة‘ كان يضمّ 12 عضواً، بينهم الجولاني والبغدادي؛
– بدأت الخلافات مع الجولاني بعد رفضه لبعض الأفكار الحمقاء، كتفجير مقر الإئتلاف؛
– في اجتماع لـ’المجلس‘ خلا من الشاميّين، وبتأييد ثلاثة وحياد ثلاثة، تم إعلان ’الدولة‘؛
– ردّ الظواهري على الخلاف كان ربط الجولاني بمسؤول آخر غير البغدادي ثم عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الخطابين وإيقاف الكلمات الإعلامية.

اللطيف، وما لم يفهمه أحد في حينه، أن الظواهري أصدر كلمة بتاريخ 8 نيسان 2013، قبل كلمة البغدادي بيوم واحد، يحذّر فيها من التآمر على الثورة ويدعو لإقامة الخلافة ويبشّر بقرب سقوط العدو، والأهم أنه يحثّ على التوحّد ونبذ الفرقة والاختلاف، ويركّز على ذلك كثيراً. يبدو إذاً أن الأخبار كانت تصله وأنه حاول احتواءها قبل أن تصدر للإعلام، وفشل في ذلك.

ردود الفعل حول إعلان بيعة النصرة للقاعدة استمرت في ارتباكها، لكنها اتجهت في ثلاثة محاور:

التبرؤ من ’القاعدة‘ وفكرها وأنهم لا يمثلون السوريين.
– اعتبار الخلاف مع ’القاعدة‘ خلافاً سائغاً، ورفض اعتبار ’الجبهة‘ إرهابية، مع الإقرار بالعمل معها حتى إسقاط النظام. ومثّل هذا معظم الحركات الجهادية، كأحرار الشام وجبهة التحرير الإسلامية ولواء التوحيد. جزء أيضاً اعتبر أن ’الجبهة‘ حتى لو كانت تابعة للقاعدة فإنها إن تغيرت وقبلت بالإنتخابات قبلناها. ربما اعتمد هؤلاء على أن ’الجبهة‘ كانت أقل تشدداً مما خبروه في العراق فمالوا لذلك. يبدو هذا التفكير رغبوياً أكثر منه واقعياً (انتهى تهافت هذا الخطاب بعد مواقف ’الجبهة‘ المعلَنة وبعد كلمة الجولاني الأخيرة).
– الإقرار بكون ’الجبهة‘ مع القاعدة، لكن وما المشكلة في القاعدة؟ مثّل ذلك الجهاديون المنتمون أصلاً للقاعدة أو المتعاطفون معهم دون تصريح، وصرّح بذلك خالد أبو صلاح في صفحته الرسمية.

و بعد حوالي الشهرين، في 9 حزيران 2013 تحديداً، أصدر الظواهري قراره المعلن (يتشابه مع ما ذكره الجهادي المصري في تفاصيله) بحلّ ’دولة العراق والشام الإسلامية‘ مع بقاء ’الجبهة‘ و’دولة العراق الإسلامية‘ على حالهما، ثم تكليف أبي خالد السوري لحلّ الخلاف، والتوقف عن أي «اعتداء» بينهما بالقول أو الفعل (تقرير من وكالة رويترز)، كما ذكر خطأ ’الدولة‘ بإعلان الوحدة دون استشارة، وخطأ ’الجبهة‘ بالرفض دونها.

رد الفعل على قرار الحل والتزام التوقف عن نشر الخطابات الإعلامية قوبل بالرفض من قبل البغدادي بعد أقل من أسبوع على إعلان الظواهري، ففي تاريخ 15 حزيران 2013 أصدر البغدادي كلمة يقول فيها: ’الدولة الإسلامية في العراق والشام باقية ما دام فينا عرق ينبض أو عين تطرف، ولن نساوم عنها حتى يظهرها الله تعالى أو نهلك دونها»، وأضاف «ما تلبث الأيام أن تنجلي عن بصر ثاقب في الرؤية على المدى البعيد عجزت أبصار القاعدين وأصحاب الأهواء والمتخاذلين عن إدراكها، فيعود المنكِر إن لم يكن متعالياً مقراً ويعود المعترض موافقاً والذامّ مباركاً ولله الحمد».

بدأت مقاطع العمليات تحت اسم ’الدولة‘ بالانتشار على اليوتيوب، وبدأت مقارّها المنفصلة ولوحاتها بالانتشار، وبدأت مشروعها في الحكم فعلاً:

اعتقال أعضاء المجلس المحلي لتل أبيض، اعتقال الإعلامي زيد محمد، إخراج ’الدولة‘ من سراقب، ملاحقة المواطنين بسبب لافتة، «دولة سوريا الحرة نبنيها بإرادتنا ولن نستوردها من تورا بورا» (لافتة من بلدة حاس، 12 تموز 2013)، إعلامي كفرنبل مطلوب لـ’الدولة‘، ’الدولة‘ تقتل أحد قادة الجيش الحر في اللاذقية، قتال في بلدة الدانا بين ’الدولة‘ وفصيل من الجيش الحر بعد اغتصاب طفل في التاسعة على يد أحد أفراد ’الدولة‘ (تونسي الجنسية، أُعدم لاحقاً)، شهادة من أحد مقاتلي الجيش الحرّ حول أحداث الدانا.

ثم بعد انقطاع طويل بدا التزاماً بقرار الظواهري، في 21 تموز 2013، ظهر الجولاني في كلمة يبدو أنها جاءت للشدّ من عصب الأتباع، في تشدّد لا يعلنه الجولاني عادةً، وللتبرؤ مما ينسب للجبهة من أفعال مشينة، وللتعليق على الخلافات الأخيرة الحاصلة بين الفصائل، جاء فيها ما يلي:

– استعراض تاريخي ينتهي إلى القول بأن كل الأمم تعادي الإسلام؛
– الأمم كلها تخاف عودة الإسلام اليوم، ولذلك هي تضع ’الجبهة‘ على قائمة الإرهاب بتهمة أنها تريد تطبيق الشريعة، ونحن نريد فعلا تطبيقها؛
– في الإسلام لا يوجد انتخابات ديمقراطية ولا أحزاب برلمانية، بل الشورى والعدل والجهاد (يبدو تلميحا لمصر)؛
– إننا لا نكترث لأمريكا والغرب، ونقول لهم إن أية محاولة لضرب الإسلام فسيعود أقوى مما كان؛
– ابتدأ بمهاجمة حزب الله ثم انتقل لمهاجمة الشيعة، واعتبر أن مشروعهم الفارسي إنما وُجد لإبادة السنّة، وأن المشروع الذي لقي نجاحاً في السنوات الأخيرة إلى أفول؛
– تطرّق للأحداث في لبنان، وذكر التفجير الأخير في الضاحية الجنوبية وأخلى مسؤوليته عنه، ولكنه اعتبره ردّ فعل طبيعي؛
– دعا من «يدّعون» التشيّع إلى التخلي عن حزب الله وإلا سيتعرضون للأهوال؛
– دعا اللبنانيين إلى تغيير واقعهم والتخلص من حزب الله؛
– تحدث عن سوريا وقال أننا في تقدّم ولا يغرّنّكم ما حدث في القصير، فقد طبق النظام قاعدة عسكرية بحشدِ أقوى ما عنده ضد أضعف ما عندنا حرصاً على تحقيق نصر يرفع معنويات جنوده؛
– قُصفت معظم الأفرع الأمنية في دمشق وحُرّرت الكثير من الحواجز والمدن والأرياف؛
– اقتصاد النظام في تراجع، ولولا مساعدات إيران والعراق لما بقي على قدرته في إدارة البلد؛
– خسر النظام السدود ومحطات الطاقة وآبار النفط، والتي نحافظ عليها بانتظار تشكيل هيئة شرعية لتُشرف على بيع النفط وتوزيعه بعدل على الأمة، وننفي شائعات بيعنا أي نفط للنظام؛
– استعانة النظام بميليشيات خارجية دليل سقوطه سياسياً أمام الدول الأخرى؛
–  هناك قوى دولية تسعى للتوازن بين القوى على أرض الشام حتى انتخابات 2014 لتستبدل طاغية بآخر والحفاظ على مضمون النظام ومؤسّستَي الأمن والعسكر الذين يحافظون على جوار اليهود؛
– دعا المجاهدين للتوحد على إقامة الشريعة وعدم التفرق والاختلاف والاستئثار بالحكم بحجّة التقديم والتضحية، بل كل الشام عانى وضحى، ولا ينسى المغتربين في ذلك وهم الذين ضحَّوا كثيرا أيضاً بما يقدرون؛
– المجتمع كان يرزح تحت وطأة نظام فاسد أفسد دينهم لأربعة عقود، ولكن هذا المجتمع ذو نية طيبة ليستقبل الدعوات «السنية الشرعية» دون شدّة أو تشنّج؛
– نبرأ من أي عمل يحاسب الناس بعيداً عن الهيئات الشرعية المعتبرة، و’الجبهة‘ غير مسؤولة عن هذه الأعمال، فالبعض يحمل رايتنا بقصد التعاطف والبعض بقصد الإساءة، وإن أساء أحد منا للناس فسنكون أول من سيحاسبه ويقدمه للهيئة؛
– لتُحلّ كل الخلافات رعاية للساحة من أن تُهدّد بخطر النزاع، وأن تحلّ أمام محكمة شرعية يقبل الجميع بحكمها، وعرَض مساعدة ’الجبهة‘ في حلّ أي خلاف؛
– دعا لعلماء أهل السنة ودعاهم لأن يكونوا بين ظهراني المجاهدين في الشام.

حتى تاريخ كتابة هذه الورقة، تبقى ’الدولة‘ و’النصرة‘ جسمين غامضين شيئاً ما، وتبدو الدراسات الجادة نادرة، كما يبدو أن الأمر الوحيد الأسوأ من عدم وجود التحليل الصحيح هو التحليل الخاطئ الذي يعرقل عملية التفكير السليم، وأخيراً، يبدو أن المعطيات قليلة وغير صائبة دائماً، وتوفير المعطيات الدقيقة سيساعد قطعاً على الاقتراب من المقاربة الصحيحة، عسى أن يكون هذا العمل جزءاً منها.

عاشت المعارضة السياسية تخبطاً واضحاً في التعامل مع شأن ’النصرة‘ و’القاعدة‘ في سوريا، وهو جزء من تخبطها الأوسع واختلافها، ولا يبدو هذا التخبط سوى مظهر من مظاهره.

لا يُعلم إلى اليوم ما هو مصير الخلاف بين ’جبهة النصرة‘ و’دولة العراق والشام الإسلامية‘. ’الدولة‘ تبدو كأنها «قاعدة القاعدة»! ومع القول أنه لا حدّ للتشدّد قطعاً، وبدراسة التجربة العراقية، لا يبدو احتمال أن تكون قعراً جديداً للقاعدة أمراً مستبعداً.

حتماً، للحديث بقية.