يبدو ردّ عائلة جبران مراد على اعتقاله مفاجئاً، وربما مدهشاً بالنسبة لمن هم خارج محافظة السويداء، إذ كيف تستطيع عائلة مقيمة في منطقة يسيطر عليها النظام السوري اختطافَ عناصر من شرطة النظام وأجهزته الأمنية، بهدف الضغط لإطلاق سراح ولدها، وكيف يمكن أن تبدو سلطات النظام مرتبكة ومترددة في التعامل مع أمرٍ كهذا.

هناك خصوصية في البنية الاجتماعية لمحافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية، وفي أساليب سيطرة النظام السوري على سكانها، وعلاقة أجهزته الأمنية بهم في زمن الثورة السورية، ولا شك أن هذه الخصوصية هي التي مهدت لإمكانية وقوع حدثٍ كهذا.

مقدمات

على الرغم من الانقسامات في المواقف السياسية بين أبناء محافظة السويداء في مواجهة التحولات الكبرى، كما في الانقسام حيال الصراع مع العثمانيين في مطلع القرن الماضي، وبعدها الموقف من الاحتلالِ الفرنسي والعلاقةِ مع سوريا، إلى ما تلاه من منعطفات كبرى وصولاً إلى الثورة السورية عام 2011، إلا أن حالةً من التضامن سادت وتسود بينهم في مواجهة ما يعتقدون أنه خطرٌ يتهدد جبل العرب بشكل عام.

ولا يوجد في السويداء مناطق أو قرى أو بلدات مقتصرة على عائلات أو مكونات اجتماعية معينة، ويشمل ذلك الطوائف أيضاً، لأنه إلى جانب الغالبية الدرزية في الجبل توجد عائلات مسيحية ومسلمة سنية، إلا أنها لا تسكن مناطق أو قرى خاصة بها.

الوحدة الاجتماعية الأساسية لدى الدروز هي العائلة الكبيرة، وغالباً ما يكون أبناؤها موزعين على عدة قرى وبلدات، لكنهم يتضامنون معاً في المصائب، وحتى في بعض الصراعات المحلية القليلة، ولعل هذه البنية الاجتماعية الداخلية كانت سبباً في عدم تحول الانقسامات السياسية التي كانت حادة في بعض المراحل إلى صراعات دموية بين العائلات، أو داخل العائلة الواحدة.

ينطبق هذا إلى حدٍّ ما على المؤسسة الدينية الدرزية، مشيخة العقل، التي هي المرجعية الدينية للطائفة الدرزية في سوريا، إذ أن الخلافات والتباينات في الآراء السياسية سائدة بين رجال الدين الدروز، دون أن تؤدي إلى فقدان المؤسسة لتأثيرها.

كان لهذه البينة الاجتماعية أثرٌ كبير في سياق الثورة السورية، لأنه على الرغم من التباينات الحادة في المواقف، واصطفاف كثيرٍ من أبناء الجبل ومعهم رئاسة مشيخة العقل إلى جانب النظام السوري، واتخاذ أغلبية واسعة منهم موقفاً حذراً ومتردداً حيال الثورة، فإن يد النظام وأجهزته الأمنية لم تكن طليقة تماماً في ملاحقة واعتقال أو تصفية الناشطين في صفوف الثورة من أبناء الجبل.

أدت هذه الأوضاع إلى تراجع السلطة الأمنية المباشرة للنظام في مساحات واسعة من محافظة السويداء تدريجياً، وإيكال مهمة حفظ الأمن لجماعات محلية مرتبطة بالنظام تحت مسمى الدفاع الوطني أو غيره من التشكيلات، لكن جميع عناصرها من أبناء القرى والبلدات الدرزية نفسها، ويتصرفون بالتالي بحذرٍ شديدٍ واحترامٍ لما تفرضه البنية الاجتماعية من حماية لحياة أبناء العائلات. ولا يعني هذا أن المعارضين من أبناء السويداء لم يكونوا عرضةً للاعتقال والقمع والتصفية، بما في ذلك صدامات مع جماعات الدفاع الوطني نفسها، لكن هذا بقي محدوداً نسبياً، وفي أوضاعٍ لا تؤدي إلى هزّ الاستقرار الاجتماعي بقوة.

كان من أهم آثار ذلك قدرة أبناء السويداء على التخلف عن الخدمة في جيش النظام، سواءً الاحتياطية أو الإلزامية، وحتى ترك الخدمة والالتجاء إلى قراهم وبلداتهم، وهو ما أدى إلى وجود الآلاف من المطلوبين بسبب تخلفهم أو فرارهم من الخدمة العسكرية، كما أدى إلى استمرار مستويات مختلفة من النشاطات المعارضة للنظام.

رجال الكرامة

منذ مطلع عام 2014، بدا أن المشكلة الرئيسية في محافظة السويداء هي رفض أبنائها القتال إلى جانب النظام على جبهات المواجهة العسكرية مع خصومه في المحافظات الأخرى، ومحاولات النظام المتكررة لإلحاقهم بالجيش بمختلف الوسائل، وهو ما أدى إلى ردود فعل تجلت في قيام الأهالي، في أكثر من حادثة، بتحرير أبنائهم من شعب التجنيد المحلية وأقسام الشرطة بالقوة، بعد أن يكون قد تم اقتيادهم عن الحواجز لإلحاقهم في بالخدمة العسكرية.

وسط هذه الظروف، ظهرت حركة رجال الكرامة بقيادة الشيخ وحيد البلعوس/أبو فهد، التي قالت منذ تأسيسها إنها ستقوم على حماية المحافظة ومن يسكنها، داعيةً إلى عدم الالتحاق بالجيش وحماية كافة الشباب المتواجدين داخل المحافظة، ومتعهدةً بالعمل على إرجاع ضحايا عمليات الخطف المتبادل بين درعا والسويداء.

تعرض الشيخ وحيد البلعوس لتهديدات ومحاولات اغتيال عديدة، إلى أن تم اغتياله مع الصف الأول من قيادات الحركة بسيارتين مفخختين في أيلول 2015.بدأت شعبية هذه الحركة تزداد بين الناس، وأصبحت تشكل هاجساً بالنسبة للنظام، الذي عمل من خلال رئاسة مشيخة العقل القريبة منه، وفرع المخابرات العسكرية الذي يرأسه العميد وفيق ناصر، على الضغط على حركة رجال الكرامة ومحاولة محاصرتها وإخمادها. وبالمقابل طورت الحركة من خطابها، ليصبح أكثر وضوحاً في معارضته للنظام، دون أن يتماهى مع خطاب الثورة السورية العام، وإنما بالاعتماد على خطاب يرتكز على الدفاع عن الجبل وأبناء الجبل، وضرورة عدم زجهم في الحرب الدائرة في البلاد، وهو ما أدى بدوره إلى تزايد شعبية الحركة أكثر فأكثر.

سيطرة النظام القوية… المحدودة!

صحيحٌ أن اغتيال البلعوس ورفاقه أدى إلى إضعاف حركة رجال الكرامة بشكل كبير، وإلى تراجع تأثيرها وخلخلة بنيتها، لكنه أدى أيضاً إلى مظاهرات كبيرة في السويداء، تم في إحداها تحطيم تمثال حافظ الأسد.

بدا أن النظام قد استعاد سيطرته على محافظة السويداء، أو أنه نجح في منع خروجها عن سيطرته، وهو الأمر الذي بدا وشيكاً قبل اغتيال البلعوس، لكنه بات بعد ذلك أقل قدرة على السيطرة الأمنية المباشرة، واعتقال أبناء السويداء سواء كانوا معارضين أو فارين من الخدمة العسكرية، حتى أن حركة رجال الكرامة نفسها لم تصبح عاجزةً رغم الضربة الكبيرة التي تلقتها، وكان أن أجبرت النظام في شباط 2016 على إطلاق سراح أحد مشايخها، بعد أن احتجز مقاتلوها العشرات من عناصر من ضباط النظام.

تراجعت الاعتقالات التي ينفذها النظام في السويداء إلى حدودها الدنيا منذ ذلك الوقت إذن، لكن بالمقابل تزايدت أعمال الخطف والسرقات التي كانت مظهراً من مظاهر تراجع سلطة الدولة، وهو ما استغله النظام وأنصاره للقول إنه ناتج عن الفوضى التي تسببت بها الثورة، في حين يتهم كثيرون من خصوم النظام السوري، سواء أولئك المنحازون للثورة السورية، أو لحركة رجال الكرامة، بالمسؤولية عن هذه الأعمال. وكان هناك عدة مبادرات أهلية لمواجهة هذه الأعمال دون الاعتماد على أجهزة النظام مطلقاً، لكنها لم تنجح حتى الآن، لتكون هذه المسألة بمجملها دلالة على تراجع ثقة أعداد متزايدة من أبناء الجبل على اختلاف توجهاتهم بأجهزة النظام الأمنية.

جبران مراد

جبران مراد شابٌ في الثلاثينيات من العمر، من أبناء بلدة القريّا في ريف السويداء، معارضٌ للنظام، عُرِفَ بوقوفه العلني والشجاع إلى جانب الثورة السورية منذ بدايتها، وسبق أن اعتقلته أجهزة النظام الأمنية عدة مرات في عامي 2011 – 2012، وأطلقت سراحه بعد فترات اعتقال متفاوتة.

في التاسع من حزيران 2017 اعتقلت دورية تابعة للأمن العسكري الشاب جبران مراد مجدداً على طريق السويداء-القريّا، فقام أفرادٌ من عائلته وأقاربه باحتجاز عنصري أمن، مطالبين بإطلاق سراح ولدهم، دون نتيجة، ليتم احتجاز خمسة عناصر آخرين يوم الثاني عشر من حزيران، ويرتفع عدد المحتجزين إلى سبعة.

تجدد الحشد في اليوم التالي أما مبنى قيادة الشرطة، بعد أن مضى الوقت الذي كان يفترض فيه إطلاق سراح جبران، وأثناء ذلك حدث إطلاق نار أدى إلى إصابة شرطي قرب فرع الأمن الجنائي، وأشاع أنصار النظام عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن المتظاهرين هم من قاموا بهذا، وهو ما نفته عائلة جبران والمحتجون، والرواية الأكثر شيوعاً الآن هي أنه خرج من مبنى الأمن الجنائي شخصان ملثمان، وأطلقا النار في الهواء ما أدى إلى إصابة الشرطي. وفي اليوم نفسه أيضاً تم احتجاز ضابط وعنصر تابعين للمخابرات الجوية، ليصار إلى إطلاق سراح الضابط لاحقاً بعد وساطات من مشيخة العقل، ويتم الإبقاء على العنصر، لينضم إلى زملائه المحتجزين بانتظار إطلاق سراح الشاب.في اليوم نفسه احتشد عدد من أقارب جبران وعائلته ورفاقه، ومعهم متعاطفون مع قضيته، أمام مبنى قيادة الشرطة في السويداء، بعد أن قال لهم الأمن العسكري إنه تم تسليمه لقيادة الشرطة، وتم إشعال الإطارات أمام المبنى وتحول الحشد إلى مظاهرة مناهضة للنظام، انفضت بعد وعود بإطلاق سراح الشاب في اليوم التالي.

يقول النظام في الرواية التي يرددها أنصاره في الأحاديث العامة والخاصة في السويداء، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، إن جبران يعمل في تهريب السلاح، وهو مرتبط بجبهة النصرة في درعا، غير أن هذه الرواية غير قابلة للتصديق شعبياً، لأن جبران معروفٌ بنشاطه المدني، ولا يُحتمَل أن يكون له أي علاقة بجبهة النصرة.

العلامة الفارقة في هذه القضية، أنها تتم على خلفية اعتقال شابٍ منحاز للثورة السورية، وليس جزءً من قوة محلية منظمة ومسلحة كرجال الكرامة مثلاً، ولا يزال عناصر من النظام محتجزين بانتظار إطلاق سراح جبران مراد، في حين يبدو أن النظام ليس قادراً على احتواء الأمر بسهولة، ولا على تنفيذ عملية أمنية لتحرير عناصره المحتجزين وإنهاء المسألة، في وقتٍ قد يشكل خضوعه لإرادة عائلة الشاب المعتقل، تحولاً قد يكون بلا عودة في علاقته بأبناء الجبل.يتم الحديث الآن عن مفاوضات مستمرة مع سلطات النظام لحل المسألة، بعد وقف التصعيد في الشارع من قبل عائلة جبران ورفاقه، ولعلّ من أبرز الأدلة على ارتباك النظام في التعامل مع هذه الأحداث، البيان الذي أصدرته حركة رجال الكرامة، وقالت فيه إن النظام طلبَ من الحركة التدخل لحل المسألة، وهو ما لم تنفِه دوائر النظام.