للشهر الثاني على التوالي تستمر المظاهرات في مدن السودان، بعدما أعلنت قطاعات واسعة من الشعب السوداني الثورة على النظام الحاكم، وهو ما دفع الأحزاب التقليدية إلى الانسحاب تدريجياً من أي شراكة في الحياة السياسية مع نظام البشير. وقد أعلن أكبر أحزاب المعارضة، حزب الأمة القومي، عن دعمه للتظاهرات المطالبة بإسقاط النظام يوم الجمعة 25 يناير/كانون الثاني، لتتوحد بذلك كل أحزاب المعارضة خلف تجمّع المهنيين السودانيين، الذي يُعدُّ اليوم الفاعل السياسي الرئيسي في الحراك الحالي.

ميدانياً، تزايدت أعداد التظاهرات واتسعت لتشمل معظم مدن السودان، ففي الواحد والعشرين من الشهر الجاري اندلعت مظاهرة واسعة جداً في مدينة أم درمان، حيث احتشد عشرات آلاف المواطنين الذين هتفوا بإسقاط النظام حتى الصباح. وقبلها بأيام اعتصم الآلاف في مدينة الخرطوم أمام مشفى رويال كير، احتجاجاً على قتل قوات الأمن لأحد المتظاهرين. ومع توسع التظاهرات، يتزايد قمع أجهزة الدولة للمحتجين، إذ ارتفع عدد الشهداء إلى أكثر من 50 شهيداً، بالإضافة إلى مئات الجرحى والمصابين وآلاف المعتقلين.

تتواصل كذلك الإضرابات المهنية والوقفات الاحتجاجية المطالبة برحيل النظام، إذ شهدت الأسابيع الماضية إضراباً لكل من نقابات الأطباء والصيادلة والمعلمين والصحافيين. ومع إعلان حزب الأمة الفيدرالي انسحابه من الحكومة والبرلمان، ارتفع عدد الأحزاب المنسحبة من الحكومة إلى 23 حزباً، ما يزيد من عزلة الحزب الحاكم الذي تتآكل شرعيته.

وعلى الرغم من أن الموجة الثورية الحالية تتميز بالانتشار الواسع للتظاهرات والاحتجاجات والإضرابات داخل العاصمة وخارجها، في المدن والأرياف على حد سواء، وذلك بعكس الثورات والانتفاضات السابقة في السودان، التي كانت تندلع وتستمر خارج العاصمة، إلا أن التظاهرات في العاصمة الخرطوم تكتسب أهمية سياسية ورمزية كبيرة، إذ من غير المرجح أن تنتصر الثورة في البلاد ما لم تنتصر في العاصمة تحديداً.

تقع مدينة الخرطوم في وسط السودان عند منطقة التقاء النيلين الأزرق والأبيض،  ويبلغ عدد سكانها 7 ملايين نسمة (يبلغ عدد سكان السودان حسب تقديرات أولية حوالي 40 مليون نسمة). تم تأسيس المدينة  في العشرينات من القرن التاسع عشر إبان غزو محمد علي باشا للسودان، ذلك الغزو الذي دشن بداية تكوّن الدولة الوطنية في السودان بشكلها الحالي، ومنذ ذلك الحين لعبت الخرطوم دوراً سياسياً حاسماً في كل المحطات التاريخية الهامة في السودان الحديث، بدايةً من تحريرها عام 1885 علي يد الإمام محمد المهدي الذي قام بثورة وطنية ناجحة حررت السودان من الحكم التركي-المصري، واستمرت حتي العام 1898 بوقوع السودان تحت الاستعمار الإنجليزي-المصري.

في فترة الاستعمار كانت الخرطوم هي المعقل الرئيسي لحركة التحرر الوطني في السودان، إذ تركّزت فيها فئات نشطة من المتعلمين والمثقفين، وكثيرٌ من التجمعات الثقافية والسياسية.

ومنذ ثمانينات القرن العشرين تشهد الخرطوم توسعاً جغرافياً وسكانياً لافتاً، يرجع لأسباب ثلاثة؛ أولها أن الحروب الأهلية خلفت ملايين النازحين والمهجرين قسرياً الذين يسكنون اليوم في أحزمة الفقر أطراف العاصمة، وثانيها موجات الجفاف والمجاعة والتغيرات البيئية التي أدت إلى نزوح مئات الآلاف إلى أطراف الخرطوم.

أما ثالث هذه العوامل التي أدت إلى خلق أحزمة الفقر في محيط العاصمة، فهي عمليات الخصخصة والتحول النيو ليبرالي التي تم أغلبها في عهد حكم عمر البشير، والتي اتسمت بالتدمير الممنهج لمشاريع الإنتاج الزراعي والصناعي في الأقاليم، ما أدى إلى تحول أعداد هائلة من المزارعين والعمال إلى العمالة الهشّة وغير الرسمية على هامش نظام اقتصادي ريعي قائم على التجارة والخدمات، مركزه مدينة الخرطوم.

تركزت التظاهرات الحالية بدايةً في منطقة وسط الخرطوم، التي تضم الأسواق والمراكز التجارية والخدمية الرئيسية ودواوين الحكومة، ثم أخذت في التمدد شيئاً فشيئاً إلى داخلها. لكن التكوين الحضري والعمراني الحالي لمنطقة وسط الخرطوم يصعّبُ من استمرارية التظاهرة، ويسهل عملية قمعها لقربها من مكاتب أجهزة الدولة التي تضم حضوراً عالياً لأجهزة الأمن، ولأن الدولة أقامت، ومذن زمن، كثيراً من الحواجز في الميادين والساحات الكبرى في هذه المنطقة، كما قامت بتحويل بعضها إلى استثمارات عقارية ضخمة، وكل ذلك تحسباً لتجمع المتظاهرين في هذه الميادين.

كل ذلك أدى إلى انتقال التظاهرات من أمكنة العمل إلى أمكنة السكن، الأمر الذي كان له تأثير إيجابي على استمرار التظاهرات وزيادة كثافتها، فقد شهدت منطقة بري شرقي الخرطوم -على سبيل المثال- أكثر التظاهرات والاعتصامات حشداً وتنظيماً، وأعنف المواجهات مع قوات الشرطة والأمن، وذلك نتيجة عدة أسباب؛ فغالبية سكانها من الطبقة الوسطى المتعلمة (قوامها المعلمون والمهنيون وموظفو القطاع العام) ممن لهم عداء قديم مع أجهزة الدولة التي قامت بنزع ملكية كثير من أراضيهم، ليتم بيعها للأكثر ثراء من المستثمرين.

كما أن علاقات القرابة والجيرة بين المتظاهرين، أسهمت في بناء الثقة وسهلت كشف المندسين من العناصر الأمنية، حيث يقوم الشباب بتنظيم أنفسهم بصورة جيدة، ويوزعون المهام فيما بينهم بسهولة، فمنهم من يقوم بالهتاف والحشد، والبعض الآخر يقوم ببناء المتاريس التي تعرقل عبور سيارات الشرطة وميليشيات الأمن، وبعضهم يقوم بتأمين خطوط للانسحاب وهكذا.

هذه الخبرات والخصائص ليست حصراً على منطقة بري، وتتشاركها كثيرٌ من المناطق ذات التركيبة السكانية والطبقية المشابهة، ولكن نجاح التظاهرات في بري ألهمَ المناطق الأخرى المشابهة لتلتحق بالتظاهرات، ما أدي لتمددها واتساع رقعتها.

إذا انتقلنا إلي أطراف العاصمة، نجد أن انضمامها للتظاهرات كان متأخراً بعض الشيء، وكثيرٌ منها لم تتحرك بكامل طاقتها بعد، رغم كثافتها السكانية العالية ورغم أنها المناطق الأكثر تهميشا وفقراً، لكن وربما لأنه سكانها هم الأكثر تضرراً من سياسات البشير النيو ليبرالية، فإنهم يرون أنهم لا يستطيعون تحمل التكلفة العالية للمشاركة في التظاهرات، بسبب واقع أن معظمهم من العمالة الهشّة التي تكسب أجرها باليومية، وهكذا فإن مشاركتهم في التظاهرات ليوم واحد قد تعني جوع أطفالهم، ولأن غالبيتهم من النازحين من الجنوب أو دارفور، وقد خبروا عنف الدولة تجاههم ويعرفون أنهم سيتعرضون للقدر الأكبر من القمع. ويبقى أن دخول هذه الفئة إلى الحراك، كفيلٌ بأن يقلب الموازين لصالح الثورة.

لاعب سياسي جديد

الفاعل الأساسي المحرك للتظاهرات في الخرطوم اليوم، هو تجمع المهنيين السودانيين، وهو تنظيم حديث النشأة يتكون من مجموعة من النقابات المهنية المستقلة عن الدولة، أبرزها المعلمون والأطباء والمحامون والصحفيون. وعلى الرغم من حداثة تجربته، إلا أنه تحوّلَ في وقت قصير جداً من مجرد تنظيم مطلبي أقصى سقف لطموحاته أن يفاوض السلطة على زيادة الحد الأدنى للأجور، إلى لاعب قوي ومؤثر يصارع على السلطة متقدماً كل أحزاب المعارضة التقليدية.

وكانت نقطة التحول في تطور التنظيم حينما قرر تحويل وجهة ومطالب موكب كان قد أعدَّ له سلفاً، وكان مقرراً له أن يتجه إلى مبنى البرلمان للمطالبة بزيادة الأجور يوم الخامس والعشرين ديسمبر/كانون الأول 2018، ولكن ومع اندلاع التظاهرات في مدينة عطبرة ونجاحها الكبير هناك، قرَّرَ التجمع تحويل وجهة موكبه من البرلمان إلى القصر الرئاسي، وتحويل مطالبه من الأجور إلى المطالبة بإسقاط النظام.

كان لنجاح موكب الخامس والعشرين من ديسمبر أثرٌ كبيرٌ على ازدياد شعبية تجمّع المهنيين السودانيين، خصوصاً وسط الطبقة الوسطى المتعلمة، إذ استفاد من استياء كثير من السودانيين من أحزاب المعارضة التقليدية، التي يرون أنها جزء من أزمة البلاد وتشكّل عائقاً أمام التغيير، وبالتالي فإن بروز تنظيم سياسي جديد من خارج المؤسسة التقليدية يعطيهم أملاً في الخلاص من دولة «الإنقاذ». إشارة إلى انقلاب عمر البشير عام 1989، والذي تمت تسميته من قبل التيار التابع للبشير بثورة الإنقاذ الوطني.

وبتوقيعه مع معظم التنظيمات المعارضة على بيان الحرية والتغيير، وهو وثيقة سياسية للانتقال الديمقراطي للسلطة في السودان، أصبح التجمع عملياً هو القيادة السياسية للثورة في السودان. ويشكّل سكان مدينة الخرطوم من الطبقة الوسطى القاعدة الاجتماعية الأساسية لتجمع المهنيين السودانيين، إذ يعتبره كثيرٌ منهم ممثلهم السياسي، لكن علاقة التمثيل والشرعية هذه تقلّ كلما ابتعدنا من الخرطوم نحو الأطراف والأقاليم البعيدة، ليس بسبب معارضتهم لهذا التنظيم، ولكن لأن كثيرين منهم لم يسمع به أصلاً، إذ يتخذ التنظيم من منصات التواصل الاجتماعي منبراً أساسياً للتواصل مع جمهوره من المتظاهرين وقيادتهم وتوجيهم.

ولكن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي غير منتشر وسط جماهير الهامش الأكثر فقراً والأقل تعليماً وثقافة، وعليه تظل قدرة تنظيم المهنيين على قيادة كل فئات السودانيين نحو التغيير مرهونة بتكثيف قدرته على التواصل مع الفئات الشعبية ومخاطبة مطالبها ومخاوفها والتواجد بينها، فالثورة لن تكتمل من دون مشاركة هذه الفئات.

تتم كتابة هذه الأسطر بينما تزيّنُ أكثر من خمسين مظاهرة أحياء الخرطوم، فالسودانيون في الشوارع للشهر الثاني علي التوالي مطالبين بحقهم في امتلاك مصيرهم، لم يرهبهم القتل ولا التهديدات بقطع الرؤوس ولا مليشيات الدولة، ولا يبدو أنهم سيتراجعون، لأنهم باتوا يعرفون جيداً أن أي تراجع يعني مزيداً من القتل والإفقار واللامساواة.